ظاهرة غياب
التلاميذ: أبعادها، أسبابها، ومقاربات المعالجة في السياق التربوي
مقدمة
تُعد التربية أولوية وطنية مطلقة في تونس،
حيث يبرز التعليم كحق أساسي مقدس يجب ضمانه لجميع التونسيين وتمتعهم به فعليًا،
دون استثناء، خاصة أولئك الذين يرتادون المدارس ذات الأولوية التربوية. هذه
المؤسسات مخصصة ببرنامج طموح يهدف إلى تحسين مردودها وتكريس شعار "مدرسة
للجميع لكل فيها حظ". ومع ذلك، تواجه مؤسساتنا التربوية، والمدارس ذات
الأولوية بشكل خاص، صعوبة هامة تتمثل في ظاهرة غيابات التلاميذ. هذه الظاهرة لا
تشكل عائقًا أمام تحقيق الأهداف التربوية فحسب، بل تُعد تحديًا يجب رفعه لتجاوز
الوضع الاستثنائي الذي تمر به هذه المدارس.
إن مشكلة التغيب عن الدراسة تُعد من أصعب
المسائل، سواء تعلق الأمر بإدراك دوافعها ومسبباتها أو بتشخيص مظاهرها بهدف
الوقاية منها والقضاء عليها. تكمن خطورة الظاهرة في كونها متعددة الأسباب، متنوعة
المظاهر، ومختلفة الأبعاد، وتتفاقم حدتها شيئًا فشيئًا، كونها مشكلة تواجه المربين
والأولياء والمسؤولين وصناع القرار على حد سواء، لأن مستقبل الطفل قد يتوقف على
قدر مواظبته على الدراسة. تهدف هذه المقالة إلى استكشاف ظاهرة غياب التلاميذ من
خلال تحليل أبعادها، أسبابها، والحلول المقترحة للتعامل معها بفعالية، مستندة إلى
المرجعيات القانونية والتربوية والنفسية، والممارسات الإدارية والبيداغوجية
المتاحة.
أولاً: تعريف ظاهرة غياب
التلاميذ وتصنيفاتها
تتعدد
تعاريف الغياب والتغيب من منظورات مختلفة. لغويًا، يشير "غاب" إلى كل ما
غاب عن الرؤية أو الحضور، ويُعرف "التغيب" بأنه نقص المواظبة في عمل
يتطلب الحضور في مكان معين، وهو سلوك يتصف بالإرادية والطوعية والتواتر. فلسفيًا،
يرى بورخيس أن الغياب يقتضي حضورًا، وإلا فقد معناه، فهو غياب مؤقت لا ينتقل إلى
حيز الفقدان الكلي، كالتلميذ الذي يغيب يومًا أو يومين لكنه يظل حاضرًا عبر
أصدقائه. مدرسيًا، التغيب هو الغياب المتعمد والمتكرر عن الدروس، ويعتبر ارتفاع
نسب التغيب مؤشرًا على إخلال المدرسة بإحدى وظائفها الأساسية، وهي مراقبة
المواظبة. نفسيًا، التغيب هو سلوك يكشف غالبًا عن نوع من القلق لدى التلميذ، وقد
يعبر عن رفض لضغوطات المواظبة، أو عدم القدرة على مسايرة الأنساق المدرسية، أو
مؤشرًا لوجود صعوبات معرفية، عائلية، مادية، علائقية، أو اضطرابات نفسية. كما يمكن
أن يكون بداية لعملية الانقطاع المدرسي نتيجة غياب الدافعية للتعلم وفقدان قيمة
المدرسة. نفسيًا اجتماعيًا، التغيب هو وسيلة يستعملها التلميذ لحل مشاكل أخرى
تعترضه في حياته.
يصنف الباحثون غيابات التلاميذ إلى عدة
أنواع منها:
- التأخرات المتكررة: خاصة في بعض الحصص.
- الغيابات المركزة: مثل الحضور في مادة معينة والعزوف عن مادة أخرى.
- التغيب المتقطع: وهو التغيب العرضي والمزاجي المرتبط ببعض الأحداث.
- الغيابات-الملجأ: الناتجة عن تخوف التلميذ من التعرض للعقوبات.
- التغيب المزمن: تغيب متكرر ومتتابع يدل على سوء تكيف مع البيئة المدرسية.
- التغيب الناتج عن نقص في الدافعية: يفقد فيه التلميذ معنى وجوده بالمدرسة.
- تغيب الرفاه: الذي يأتي قبل العطل المدرسية أو إثرها.
- التغيب المفتعل: كتأخر التلاميذ عن المدرسة أو ذهابهم إلى محل التمريض عوض الفصل.
- التغيب الناتج عن الإقصاء من الفصل: بسبب تعطيل سير الدروس.
- الغيابات "المشرعنة": التي تكون عن طريق التبريرات الإرضائية.
ثانيًا: مبررات الحرص على مواظبة
التلاميذ
تُعد
مراقبة مواظبة التلاميذ ضرورية بناءً على عدة مبررات:
- مبررات قانونية: إجبارية التعليم نصت عليها المرجعيات القانونية في تونس، مثل
القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي لعام 2002 (الفصل 20)، والذي يؤكد
أن التعليم الأساسي إجباري مادام التلميذ قادرًا على مواصلة تعلمه، ويضمن حق
التعلم مجانًا في المؤسسات العمومية. كما تنص مجلة حماية الطفل (الفصل 23)
على اعتبار عادة ترك الطفل دون رقابة أو متابعة "تقصيرًا بينًا في
التربية والرعاية". وتلتزم تونس بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق
الطفل (المادة 28) بتشجيع الحضور المنتظم في المدارس وتقليل معدلات ترك
الدراسة. وتلزم القوانين الأولياء بالسهر على مواظبة أبنائهم، وتفرض غرامات
مالية على من يمتنع عن إلحاق منظورهم بالتعليم الأساسي أو سحبهم منه قبل السن
القانوني.
- مبررات تربوية: تعمل مراقبة المواظبة على تنشئة التلاميذ اجتماعيًا، وتدريبهم
على احترام القانون والانضباط، وتحمل المسؤولية، واحترام الوقت، مما يعودهم
على الضبط الاجتماعي وقواعد العيش ضمن المجموعة.
- مبررات أخلاقية: تساهم في تنمية شخصية التلميذ في أبعادها الجسدية، الأخلاقية،
الروحية، والجمالية، ووقايته من أشكال الجنوح المختلفة، حيث أثبتت البحوث
وجود ارتباط وثيق بين التغيب ومظاهر الانحراف السلوكي.
- مبررات بيداغوجية: تؤثر ظاهرة الغيابات على مكتسبات التلميذ ومردوده الدراسي،
وتساعد عملية مراقبة المواظبة على تحفيز دافعية التلميذ للدراسة وإتمام
المقررات.
ثالثاً: أسباب غياب التلاميذ
تتعدد
العوامل المؤدية إلى غياب التلاميذ، ويمكن تقسيمها إلى عوامل بيئية (تتعلق بالمنزل
والمدرسة والجو المحيط بالطفل) وعوامل ذاتية (تتعلق بالطفل نفسه وتكوينه الشخصي
واستعداداته). من أبرز الأسباب المذكورة في تقارير المؤسسات التربوية:
- أسباب صحية: وهي الأكثر تواترًا، حيث ذكرتها 35 من أصل 37 مدرسة.
- أسباب مرتبطة بالوضع العائلي: مثل الأوضاع المادية والاجتماعية الصعبة،
انفصال الوالدين، شؤون عائلية، واستقالة الولي.
- عوامل بيئية ومناخية: كبعد مقر الإقامة، انعدام وسائل النقل،
وعوامل مناخية مثل الفيضانات.
- أسباب مدرسية وبيداغوجية:
- العزوف عن الدراسة: يرتبط بفقدان
الدافعية للتعلم، وعدم القدرة على مسايرة النسق المدرسي، والتباينات الشديدة
بين التلاميذ في المستويات التحصيلية أو الاقتصادية.
- تأثر مجموعة الأقران: خاصة المنحرفين
أو الذين يميلون إلى التغيب.
- الإقصاء من الفصل أو الرفت المؤقت/النهائي.
- تدني الفائدة المباشرة من التعلم وكراهية بعض المواد الدراسية.
- نقص الاهتمام بالمدرسة والمقررات الدراسية من قبل التلميذ وغياب
المشروع الدراسي والمهني لديه.
- عدم التكيف مع البيئة المدرسية: نتيجة صعوبة
استيعاب المعرفة، أو قلق وتوتر يعانيه التلميذ.
- طول اليوم الدراسي وكثرة الواجبات المدرسية: مما يسبب إرهاقًا للتلاميذ ويحول دون استمتاعهم بطفولتهم.
- المناخ المدرسي: كالجو الصارم، أو الإهمال والتراخي، أو العنف بين التلاميذ، أو
التوتر في العلاقة بين المدرسين والتلاميذ.
رابعاً: طرق التعامل ومعالجة
ظاهرة غياب التلاميذ
تتطلب معالجة ظاهرة الغياب استراتيجية عمل
متكاملة وشاملة تشمل أبعادًا إدارية، تربوية، وبيداغوجية:
أ. التعامل الإداري والتشريعي: تتضمن الإجراءات المعتمدة سلسلة من التدخلات المتدرجة:
- عند الغياب الأول: التحاور مع التلميذ لمعرفة الأسباب وتدوينها.
- عند تكرار الغياب: انتهاج الحوار، ثم توجيه إنذار، واستدعاء الولي، وتسجيل الغياب والعقوبة
في بطاقة السيرة والمواظبة.
- عند الغياب المستمر: مراسلة أولياء الأمور (بعد 3 أيام و10
أيام)، وفي حال استمرار الغياب لمدة تصل إلى 21 يومًا، يتم إعلام بالشطب لمن
هم دون 16 سنة وإعلام الدوائر ذات العلاقة.
- في حالات الغياب المتقطع غير المبرر: يمكن إحالة التلميذ إلى مجلس القسم.
- في حالات تعمد الولي منع التلميذ من الحضور: يمكن اتخاذ تتبعات عدلية وإجراءات جزائية وفق مجلة حماية الطفولة.
- التوعية بالإجراءات: إعلام الأولياء بضرورة إشعار الإدارة بأي
غياب يتجاوز ثلاثة أيام مهما كانت أسبابه.
- دور المدرسة: يتولى الأساتذة تسجيل غيابات التلاميذ في دفتر المناداة، وتتولى
الإدارة متابعة ذلك.
- استغلال التكنولوجيات الحديثة: يمكن لتطبيق "خدمات مدرسية" أن
يسهل تسجيل التلاميذ ومتابعة سيرتهم ومواظبتهم، ويسرع الحصول على المعطيات
لتحسين مراقبة حالات التغيب قبل استفحالها. كما يمكنه توفير كشوف شاملة عن
وضعية التلميذ أو الفصل، وتحديد مؤشرات التغيب (التأخرات، الإقصاء، الطرد)،
ومتابعة جميع الأصناف، والوقوف على مدى الارتباط بين النتائج المدرسية ونسب
الغيابات.
ب. المرافقة التربوية والدعم الشامل: تهدف هذه المرافقة إلى معالجة تدني الدافعية للتعلم، وهي حالة تتدنى
فيها دوافع التعلم، فيفقد التلميذ الاستثارة ومواصلة التقدم والانتباه، مما يؤدي
إلى الإخفاق. تتضمن المرافقة:
- تصميم برامج سلوكية: لتحديد أعراض تدني الدافعية، تحليل ظروف
التلاميذ، تحديد الأهداف العامة والخاصة، ثم وضع إجراءات مناسبة وتنفيذها ضمن
اتفاق مع التلاميذ.
- المقابلة للمساعدة: تُعد المقابلة أداة أساسية لتشخيص ومعالجة
المشاكل الإنسانية والعاطفية. يجب التخطيط الجيد للمقابلة، وضمان جو مريح
وحر، والبدء بمواضيع محايدة ثم التدرج للمواضيع العاطفية، وطرح أسئلة واضحة،
وإعطاء الوقت الكافي للإجابة، والإصغاء الجيد، وتجنب إصدار الأحكام أو
التوبيخ. يمكن تصميم دليل مقابلة لتحديد الإطار الاجتماعي والعائلي والمدرسي
للتلميذ، ومجموعة أقرانه، وأسباب الغياب، وكيف يقضي وقته، ورأيه في المدرسة
والأنشطة فيها.
ج. تفعيل دور الفريق التربوي: يُعد الفريق التربوي أداة مهمة لمكافحة الغيابات. يُشكل من جميع
الأطراف الفاعلة داخل المؤسسة (الإطار الإداري والتربوي، الأساتذة، المرشدون)
وخارجها (أولياء الأمور، السلطات المحلية، المنظمات، الأخصائيون، طبيب المدرسة).
مهام الفريق تشمل:
- الوعي بخطورة الظاهرة وتحديد طبيعتها.
- وضع المعايير وتحديد الحلول الواقعية والقابلة للقياس والتنفيذ.
- جرد الحلول وتقييمها، ثم اتخاذ القرارات المناسبة.
- وضع خطة عمل تنفيذية دقيقة، وتوزيع المهام على الأعضاء.
- وضع منهجية للتعريف بالخطة وتوعية الأطراف المعنية.
- وضع منهجية للمتابعة والتقييم لضمان التنسيق والتحقق من التقدم. يمكن للفريق التربوي أن يلعب دورًا مهمًا
لدى التلاميذ كثيري التغيب، بشرط أن يضع ممارسات تربوية وبيداغوجية ناجعة
تأخذ في الاعتبار حاجات المتعلمين وتتيح فرصًا حقيقية للنجاح المدرسي، وأن
ييسر الاندماج الاجتماعي للتلاميذ، وأن يعمل على تثمين المجهود المبذول.
د. المقاربات البيداغوجية:
- تكييف البيئة المدرسية: العمل على توفير جو مدرسي محفز وغير منفر،
ومعالجة المشاكل التي قد تؤدي إلى نفور التلاميذ من الدراسة.
- مراعاة الفروق الفردية: تبني أساليب بيداغوجية تراعي الفروق الفردية
للتلاميذ، وتدريب المدرسين على إعطاء الأولوية للمتعلم قبل محتويات المواد.
- دمج البعد الوجداني: خلق مناخ علائقي أفضل داخل المدرسة ودمج
البعد الوجداني في الحياة المدرسية.
- ربط التعليم بالحياة: جعل الدروس مفيدة ومحفزة وتفاعلية، وتقديم
أنشطة ترفيهية وثقافية خارج أوقات الدروس.
- تحسين العلاقة مع المعرفة: العمل على أن تكون العلاقة بالمعرفة علاقة
شغف وتحفز لدى التلاميذ.
- مقاومة العنف داخل المؤسسة التربوية.
خاتمة
تُظهر
ظاهرة غياب التلاميذ تعقيدًا وتعددية في الأسباب والمظاهر، مما يجعلها تحديًا
جوهريًا أمام تحقيق أهداف النظام التربوي. إن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تقتصر
على الإجراءات الإدارية الصارمة وحدها، بل تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد
تجمع بين الجانب القانوني والإداري، والدعم النفسي التربوي، وتفعيل دور الفريق
التربوي، وتبني مقاربات بيداغوجية حديثة.
إن الرهان الحقيقي يكمن في قدرة المؤسسات
التربوية على فهم الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك، والتحلي بالمرونة والابتكار في
تقديم الحلول. يتطلب ذلك بناء مناخ مدرسي محفز وداعم، يراعي احتياجات التلاميذ
الفردية، ويسهم في تعزيز دافعيتهم للتعلم وشعورهم بالانتماء للمدرسة. كما أن
التعاون الفعال بين جميع الأطراف المعنية – المدرسة، الأسرة، والمحيط الاجتماعي –
يُعد حجر الزاوية في بناء استراتيجية ناجعة للوقاية من الغياب والتصدي له. فالهدف
الأسمى هو ضمان حق كل تونسي في التعليم، وتوفير فرص متكافئة للجميع، من خلال مدرسة
تحتضن المتعلم وتعده لمستقبل مشرق، بعيدًا عن شبح الفشل أو التسرب.
اعداد واقتباس و انجاز
انيس موسى
قيم مرشد
1 التعليقات:
برافو احطت بجوانب الوضعية
إرسال تعليق
شكرا لمساهمتك ولاهتمامك